التزييف العميق يهدد الأمان المالي.. وشركات عالمية تُصارع لمواجهة الخداع الرقمي

"لا تثقوا بأعينكم"

التزييف العميق يهدد الأمان المالي.. وشركات عالمية تُصارع لمواجهة الخداع الرقمي
التزييف العميق- أرشيف

لم يعد الخطر المالي الذي يواجه المؤسسات والشركات قادمًا من ثغرة في الأنظمة المصرفية أو سرقة بيانات تقليدية فقط، بل هناك مصدر أكثر خفاءً: الذكاء الاصطناعي نفسه، ففي الوقت الذي تتباهى فيه الشركات العالمية بإطلاق نماذج جديدة لتوليد الصور والنصوص، تحذّر تقارير متزايدة من أن هذه الأدوات أصبحت أداة احتيال فعّالة تُستخدم لتزوير الإيصالات والفواتير، ما يُهدد الحق في الأمان المالي ويقوّض الثقة ببيئة العمل الرقمية.

بحسب صحيفة "فايننشيال تايمز"، فإن الإيصالات المزيفة المُنشأة بالذكاء الاصطناعي أصبحت ظاهرة ملموسة داخل المؤسسات، وأفادت شركة AppZen أن نحو 14% من المستندات الاحتيالية المقدّمة في سبتمبر الماضي كانت مُولّدة بالذكاء الاصطناعي، بعدما كانت النسبة صفرًا في العام السابق.

وفي الوقت نفسه، كشفت مجموعة Ramp، وهي من أبرز شركات التكنولوجيا المالية، أن برنامجها الجديد تمكن من كشف فواتير احتيالية تزيد قيمتها عن مليون دولار أمريكي خلال 90 يومًا فقط.

هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات تقنية، بل مؤشرات على اختلال ميزان الأمان المالي في بيئة تتسارع فيها أدوات الخداع البصري، حيث يقول نائب الرئيس في شركة SAP Concur، التي تُعالج أكثر من 80 مليون فحص امتثال شهريًا باستخدام الذكاء الاصطناعي، كريس جونو: "أصبحت الإيصالات ممتازة لدرجة أننا نقول لعملائنا: لا تثقوا بأعينكم".

تُشير الصحيفة البريطانية إلى أن إطلاق نموذج GPT-4o من OpenAI أسهم في زيادة غير مسبوقة في الإيصالات المزورة، وأكدت الشركة نفسها للصحيفة أنها تتخذ إجراءات حين تنتهك صورها السياسات المعتمدة، إلا أن سهولة توليد الصور وإزالة بياناتها الوصفية تجعل من الصعب ضبط الاستخدامات الاحتيالية.

التزييف العميق

لم تتوقف الظاهرة عند الإيصالات، بل امتدت إلى مشهد أكثر خطورة، فبحسب صحيفة "الغارديان"، أكدت شركة أروب الهندسية -وهي من كبريات شركات الاستشارات العالمية التي شاركت في تصميم دار أوبرا سيدني ومشروعات النقل في لندن وبرشلونة- أنها وقعت ضحية لعملية احتيال عبر مكالمة فيديو مُولّدة بالذكاء الاصطناعي، خُدع خلالها أحد موظفيها في هونغ كونغ لإرسال 20 مليون جنيه إسترليني إلى مجرمين انتحلوا هوية كبار المسؤولين التنفيذيين في الشركة.

أوضحت الشركة في بيان رسمي أنها لم تتأثر ماليًا أو تشغيليًا على المدى البعيد، لكنها وصفت الحادث بأنه "جرس إنذار عالمي"، وقال روب جريج، كبير مسؤولي المعلومات بالشركة: "لاحظنا ارتفاعًا حادًا في عدد الهجمات وتطورها، من عمليات التصيّد إلى التزييف العميق، وهذه الحادثة تؤكد أننا أمام مرحلة جديدة من الاحتيال المدعوم بالذكاء الاصطناعي".

ويكشف الحادث عن بُعدٍ حقوقي يتجاوز خسائر الأموال إلى تهديد حق الإنسان في بيئة عمل آمنة رقميا، حيث تتراجع قدرة الموظفين على التمييز بين الحقيقة والتزييف داخل فضاء العمل ذاته.

انهيار الثقة

ووفقًا لتقرير نشره معهد المحاسبين القانونيين المعتمدين في إنجلترا وويلز (ICAEW) في أبريل الماضي، يشكّل تزايد المدفوعات والفواتير المزيفة خطرًا متناميًا على المهنة المحاسبية وعلى الأمان المالي للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة.

وقد باتت التطبيقات المصرفية المزيفة والتوليد الصوري للإيصالات تهديدًا مباشرًا للشفافية، خاصة بعد أن أصبح بإمكان أي شخص إنشاء إيصال واقعي يحتوي على شعارات حقيقية وأرقام ضريبية صحيحة وطيات ورقية مزيفة في ثوانٍ معدودة.

ويحذر المعهد من أن هذه التقنيات تُعيد تعريف مفهوم "الثقة المالية"، مؤكدًا أن الشركات التي لا تطبق أنظمة تحقق دقيقة أصبحت أكثر عرضة للخداع.

وأظهرت دراسة لشركة Ivalua أن ثلث الشركات في عام 2024 وقعت ضحية للاحتيال في الفواتير، بينما ارتفعت المخاوف من أن تتسبب الاتصالات والوثائق المزيفة في تأخير عمليات الدفع، مما يزيد من هشاشة الاقتصاد وسلسلة التوريد.

ويشير التقرير إلى أن الحكومة البريطانية أطلقت خطة لتحديث التشريعات السيبرانية ومنح الجهات التنظيمية صلاحيات موسعة لمحاسبة شركات التكنولوجيا على قصور أمنها، في خطوة تهدف إلى "إعادة ترميم الثقة الرقمية في السوق البريطاني".

هدية للمحتالين!

ومع اقتراب مرحلة أكثر تطورًا، يكشف استطلاع لوكالة "بي آر نيوزواير" أجرته شركة Medius في أغسطس 2025 أن 32% من الخبراء الماليين في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة يقرّون بأنهم لن يتمكنوا من تمييز إيصال مزيف إذا وصل إلى مكاتبهم.

كما أظهر الاستطلاع أن ثلاثة من كل عشرة لاحظوا ارتفاعًا في الإيصالات المزورة منذ إطلاق GPT-4o، وتزايدت المخاوف مع إطلاق GPT-5.0 من أن تصبح المطالبات الاحتيالية "أكثر إقناعًا واستحالة في الكشف".

قال غاري هول، كبير مسؤولي المنتجات في Medius: "نحن في مرحلة حاسمة، ما يَعِد به GPT-5.0 من واقعية ودقة وسهولة استخدام هو إنجاز للابتكار، لكنه أيضًا هدية للمحتالين".

وأضاف أن "الشركات اليوم لا تواجه فقط خللًا في سياسات الامتثال، بل أزمة ثقافة مالية كاملة، إذ يعترف 29% من الموظفين بأنهم زوّروا أو أعادوا تصنيف نفقات شخصية كنفقات عمل"، ويرى أن ذلك يخلق "فجوة أخلاقية متنامية" تهدد الحق في بيئة مهنية قائمة على النزاهة والشفافية.

بين التكنولوجيا والحقوق

تتقاطع هذه الشهادات والتقارير لتكشف ملامح أزمة إنسانية بقدر ما هي تقنية، فالمشكلة لم تعد مجرد تحدٍ للأمن السيبراني، بل صراع على حق الإنسان في الأمان المالي والرقمي في عالم تُطمس فيه الحدود بين الواقع والاصطناع، فالذكاء الاصطناعي، الذي وُلد ليخدم الشفافية والكفاءة، أصبح في كثير من الأحيان أداةً لتقويض الثقة، مما يُعيد طرح سؤال جوهري حول المسؤولية الأخلاقية للشركات المطوّرة لهذه التقنيات.

ويُجمع الخبراء على أن الأزمة الحالية تستلزم توازنًا حقيقيًا بين الابتكار والضبط، وبين السرعة الرقمية وحق الإنسان في بيئة مالية آمنة، ففي زمن لا يمكن فيه الوثوق حتى بما تراه العين، يبدو أن استعادة الأمان الرقمي لن تكون مسألة تقنية فحسب، بل اختبارًا أخلاقيًا لمستقبل الإنسانية في عصر الذكاء الاصطناعي.

 

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية